Saturday, March 31, 2007

عتبة .. رمسيس .. عتبة ..!



عتبة .. عتبة .. رمسيس ..!‏
شئ في منتهى القسوة أن تكبر قبل الاوان .. ان تتحمل مسئولية تفوق قدراتك أضعافا ‏مضاعفة .. أن تفقد إحساسك بالسعادة وتمر عليك لحظات الفرحة عابرة كأنها كارهة ‏المكوث امامك .. ان تجد نفسك فجأة وانت فى مقتبل العمر مسئول عن نفسك وامك ‏واخوتك .. وحيد خائف ..ضعيف تعتمد فى حياتك على شخص واحد فقط هو انت ولا ‏سواك .. هذا ما شعرت به عندما تحدثت اليهم .. اجساد ضئيلة واصوات حادة لا تأخذ ‏مساحة من المكان مهمتها النداء باعلى صوت ، " تباع " يعنى ينادى على العربية ‏ويجمع الاجرة من الركاب ويهرب من الامن الذى يفترض انه يمنع عمل هؤلاء ‏الاطفال فى هذه المهنة الخطيرة .. ‏
أول ما شاهدته كان يجرى من احد افراد الشرطة الذى كان يطارده فى شئ من ‏الاهمال وكان السائق الذى يعمل معه يصيح به قائلا "استخبى يللا فى الحته بتاعتنا ‏وانا جايلك " ومرة اخرى صادفته وكان هذه المرة يعمل بأمان فى جمع الاجرة ‏والنداء " عتبه ..عتبة .. رمسيس " ، محمود طفل لم يتعد العاشرة .. نزل الشارع ‏وهو دون الرابعة .. حين فقد والده في حادث اليم وكان وحيده لم تحتمل والدته الو حده ‏بعد أن مات زوجها الشاب وقبلت أول من طرق بابها تزوجته وأنجبت أطفالا .. ‏سرعان ما غضب الزوج الجديد من الطفل الصغير.. ضاق الرجل بمصاريف الطفل ‏وطرده من المنزل وعاش الصغير عند جدته لامه التي ساعدته للعمل عند سائق ‏ميكروباص .. ملامح الحزن والمعاناة غطت وجه الصغير واتحدت قسوة البرد مع ما ‏يعانيه من ظروف سيئة لتشكل مأساة فاقت تحمل الصغير..‏
‏- بتشتغل إيه يا محمود ؟‏
‏- أنا شغال تباع على ميكروباص يعنى بنادي على الموقف ، شغال على خط بنها مع ‏عم حسين .‏
‏- اشتغلت من امتى ؟‏
‏- مش فاكر بس أنا من زمان وأنا شغال تباع لحد ما شربت الشغلانة كويس ، وعم ‏حسين قريبنا هو اللي جابنى معاه لما لاقاني قعدت مع جدتي وسبت امى مع جوزها ‏قاللى انت جسمك صغير وحرك ما تيجى تشتغل معايا على العربية ، .. ستى قالتله ده ‏لسه صغير قالها ما هوالصغير ده هو اللى انا عايزه مش هياخد مكان فى العربية ‏وهيعبى زباين كتير ، وأهو الصغير بيكبر ...‏
‏- بتشتغل كام ساعة فى اليوم يا محمود ؟‏
‏-انا بخرج الساعة 7 الصبح وبرجع على عشرة او 11 باليل ..‏
ـ طب مش بتاخد اجازة ؟‏
ـ لا انا بشتغل كل يوم وبعدين لو قعدت هعمل ايه ما عنديش حاجة تانية اعملها غير ‏انى اشتغل وبعدين انا عايز احوش فلوس كتير واشترى عربية لما اكبر اشتغل عليها ‏وابقى احسن من جوز امى !‏
‏- قوللى الاسطى بيعاملك ازاى ؟‏
‏- لا بيعاملنى كويس والله ده حتى لما الزباين بيقلوا ادبهم عليا ويشتمونى بيرد عليهم ‏وبيقولهم ده ابنى اياك حد يشتمه ، وبعدين ما بيضربنيش زى ما الاسطوات التانيين ‏بيضربوا التباعين اللى معاهم ، يعنى الواد سيد الاسطى بتاعه ضربه علقة من مده ‏عشان اتخانق مع زبون ما كانش عايز يدفع الاجرة وضربه عشان يرضى الزبون ‏بتاعه ، لكن عم حسين بيبقينى على الزباين .‏
‏- بتاخد كام يا محمود ؟‏
‏- انا فى اليوم باخد سبعة جنيه بصرف اتنين على الاكل والباقى بديه لستى عشان ‏تحوشهولى ..!‏

‏* ادهم .. ست سنوات حلمه الوحيد ميكروباص ..!‏

طفل لم يكمل العاشرة فقد الاحساس بأدنى مشاعر الطفولة لم يعد يفكر فى اللعب مثل ‏باقى اقرانه ، لا يفكر فى المستقبل ، لا يعرف شئ فى حياته غير الميكروباص وعم ‏حسين وجدته .. حتى امه نسيته وتاهت فى مشاكل زوجها وأولادها ..‏
‏- محمود كان حظه إلى حد ما جيد في هذه المهنة الشاقة لأنه وجد سائق يعامله ‏بعطف غير باقي السائقين ،‏
على عكس ادهم الذي كان مثالا صارخا على معاناة نفسية في مهنة التباع ..فالطفل ‏حين يكبر قبل أوانه يزداد عنفا ويتحول الى وحش صغير .. حاقد على مجتمعه ‏وسرعان ما يتحول الى مأساة جديدة لا تختلف كثيرا عن مأساة التوربينى وغيره من ‏الاطفال الذين قذف بهم القدر الى ما لم يتحملوه من هوان ، حين ركبت الميكروباص ‏هالني صغر حجمه فهو لم يتعدى السادسة صوته لم تتشكل ملامحه بعد يختفي بين ‏أصوات الركاب وكاسيت الميكروباص المدوي .. وسرعان ما امتلئت العربة ‏بالركاب لدرجة خرج فيها الطفل خارج العربة وتشبث بالباب وهو لا يزال مصرا ‏على النداء أكثر على الركاب ..‏
إيه يا بنى كفاية جدا انت هتجيب فين تانى ؟‏
جرى إيه يا ابلة الرزق عايز كده والناس عايزة تروح بيوتها وإحنا بالليل كده ، ‏انتهزت فرصة اندماجه في الحديث بشكل سهل وسرعان ما سألته انت عندك كام سنه ‏يا ادهم ، اجابنى بصوته الحاد 6 سنين ليه هو انت مستصغرانى يا ابلة .. ‏
‏- قلتله لا ابدا اصل ست سنين صغير قوى على المرمطة دي ..؟
‏- لا اصل ما عنديش اهل خالص وبدل ما اتبهدل فى الشوارع ولا العيال بتوع ‏التوربينى يبهدلونى بشتغل على العربية طول اليوم واخر الليل اغسلها وانام فيها .. ‏طب اهلك فين مافيش حد خالص..؟
‏- لا ابويا موجود بس متجوز ست مش كويسة .. رمانى فى الشارع وقاللى شوف ‏مصلحتك بعيد عنى .. ‏
‏- بسهولة كدة رماك ؟
‏- يا ستى احنا اصلا مش عارفين بعض انا واخواتى كتير قوى وابونا زى ما تقوللى ‏بيسرحنا عشان كل واحد يجيب لقمته وكمان نديله بس انا قلت له لا ما فيش قاللى ‏خلاص ما فيش بيت واياك تورينى وشك تانى ...!‏
يا سلام وانت بقى اصغر اخواتك ولا فى اصغر منك ؟
‏- اه انا اصغر واحد وما حدش بيسأل عنى خالص .. عادى ان خلاص اتعودت على ‏كده ،،،
‏- نازل فين يا افندى - ..‏
‏ - هو انت يا ادهم ما كنتش عايز تدخل مدرسة .. ؟
‏- مدرسة إيه يا ابلة انا بلاقى حق الاكل بالعافية وبعدين هو انا ليا اهل يودونى ابويا ‏رمانى وامى ما شفتهاش من ساعة ما وعيت على الدنيا ، ‏
‏- طب قوللى يا ادهم ما بتغيرش من العيال الصغيره اللي بتروح المدرسة ..؟
‏- يا ابلة دى عيال ورق اى كلام اكتر واحد فيهم ممكن يبقى ايه لما يكبر دكتور ولا ‏مهندس .. انا هبقى احسن منه .. !‏
‏- ليه يا ادهم ..؟
‏- أصلى ناوى أحوش ولما اكبر شوية اطلع رخصة واشترى ميكروباص وابقى ‏صاحبه وساعتها ما حدش يتحكم فيا وانا اللى اتحكم فى الركاب اللى منهم دكتور ‏ومهندس ..‏
‏- طب يا بنى انت مش صغير على كل ده ..؟
‏- ييييه صغير ايه يا ابلة انا فى الشارع بقالى سنه ونصف خلاص اتعودت على كل ‏ده وحتى ما بقتش تفرق معايا أنام فين .. في العربية ولا في الجامع ولا في اى حته ! ‏
‏ ‏
‏* وقعت من الميكروباص وماتت .. ذكريات طفل في العاشرة ..!‏

رحلة قد تكون قصيرة لكنها كافية جدا كى تعطينا تصور" رائع " لمستقبل مثل هؤلاء ‏الاطفال الصغار الذين قذف بهم القدر بمنتهى القوة الى الشارع ولم يجدوا من يحنو ‏
عليهم ويعطيهم حقهم الطبيعى فى الحياة كأطفال كل همهم اللعب والمدرسة .. ‏
حاجة الكثيرين من الأسر المصرية أدت إلي الدفع بهم مبكرا إلي سوق العمل في ‏الأعمال اليدوية والأعمال الضارة والخطيرة مقابل أجور زهيدة لتلبية متطلبات ‏أسرهم رغم أن القانون المصري يمنع عمالة الأطفال الأقل من 12 سنة ويسمح بعمل ‏الأطفال من 12 إلي 14 سنة في بعض الأنشطة غير الضارة، ولكن هذه القوانين لم ‏يتم تفعيلها حتى الآن بشكل يحمي أطفال مصر أو بشكل يفسح المجال لاستيعاب ‏فرص عمل حقيقية للعاطلين في سوق العمل الذين تتراوح أعمارهم بين 15 إلي اقل ‏من 60 سنة وتجمع الدراسات علي أثر هذه الظاهرة اقتصاديا واجتماعيا علي مستقبل ‏الأطفال والاختلالات الحادثة في هيكل سوق العمل المصري.‏
وطبقا للبيانات المستمدة من بحث العمالة بالعينة ومصادر أخري للبيانات، فإن ‏الأرقام تشير إلي أن حجم الظاهرة يصل إلي نحو 4.1 مليون طفل خلال السنوات ‏الماضية فليس هناك اختلافات كبيرة في تطور حجم عمالة الأطفال منذ سنوات طويلة ‏في مصر وأخذت هذه الظاهرة في الزيادة في الوقت الراهن خاصة بعد انخفاض ‏مستويات دخل الأسر في مصر.‏
دلني أدهم على احد زملائه فى المهنة ابراهيم اكبر منه بقليل لكنه اكثر منه خبرة ‏ومعرفة ، خيل لى انى اتحدث مع رجل كبير من كثرة ما رمانى به الطفل من احباط ‏واكتئاب ، ابراهيم نزل الشارع وهو دون السابعة وكالقصة المعتادة ولد لاب هارب ‏وام لا تجد اللقمة .. فى حى عشوائى .. اضطر الصغير بالحاح من امه الى الخروج ‏للعمل تباع على ميكروباص .. ‏
‏- انا احسن حاجة بفرح بيها لما بروح البيت ومعايا عشا سخن لامى ولما بخرج كل ‏يوم الصبح بتسمعنى احلى دعوة فى الدنيا ..ابتدى معايا كده عشان يحسسني انه سعيد ‏ومش عايز حاجة من الدنيا ، بس لما سألته اكتر حاجة مضايقاك في شغلانة التباع ‏قاللى بعد ما سرح شوية .. ‏
‏- هو بصراحة في حاجات بشوفها بتوجعنى قوى .. حوادث بشوفها عيني عينك ‏أخرها حادثة البنت اللي كانت راكبة جنب السواق وكانوا الزباين اللي جنبها مضيقين ‏عليها المكان قوى لدرجة إن باب العربية اتفتح ووقعت وماتت !‏
‏- معقول شفت ده ؟‏
‏- آه وشفت غيره كتير.. وهى دي الحاجات اللي ما بحبهاش انى بشوف حوادث كتير ‏بحلم بيها بالليل ...!‏
قد يكون الكلام لا يحمل جديدا .. معاناة معتادة لأطفال مصريين .. والسؤال كم ‏توربيني قادم ؟ .. وأين القوانين والاتفاقيات العديدة التي وقعت عليها مصر بشأن ‏حماية الطفل؟ وهل يكتفي رجل الشرطة بمطاردة هزيلة لأطفال يعملون على ‏ميكروباص من باب تأدية الواجب .. وماذا يخبئ القدر لادهم ومحمود وابراهيم ...؟ ‏ ‏